د. محمد ويلالي
عن علقمة بن قيس قال: “بتُّ مع عبدالله بن مسعود ليلة، فقام أوَّل الليل، ثمَّ قام يصلِّي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجِد حيِّه: يرتِّل ولا يراجع، يُسمع مَن حوله ولا يرجع صوته، حتَّى لَم يبْقَ من الغلس – ظلمة آخر الليل – إلاَّ كما بين أذان المغرب إلى الانصِراف منها، ثم أوْتر”.
وفي حديث السائب بن زيد قال: “كان القارئ يقْرأ بالمئين – يعني: بمئات الآيات – حتَّى كنَّا نعتمِد على العصيِّ من طول القيام، قال: وما كانوا ينصرِفون إلاَّ عند الفجر”.
كيف ورسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يقول: ((يتنزَّل ربُّنا – تبارك وتعالى – كلَّ ليلة إلى السَّماء الدنيا، حين يبقى ثلُث الليل الآخر فيقول: مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ مَن يسألُني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟))؛ متَّفق عليه.
وفي لفظٍ عند مُسلم: ((مَن يقرض غير عَديم (فقير) ولا ظلوم)).
وكانوا يهتمُّون مع الصَّلاة بالقُرآن الكريم؛ فقد نقَلَ الذَّهبي عن الأسودِ بن زيْد: “أنَّه كان يَختم القرآن في رمضان في كلِّ ليلتَين، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يَختم القُرآن في غير رمضان في كلِّ ستِّ ليال”.
وكان قتادة – رحِمه الله – يَختم القُرآن في كلِّ سبع ليالٍ مرَّة، فإذا دخل رمضان ختمَ في كلِّ ثلاث ليال مرَّة، فإذا دخل العشْر ختم في كلِّ ليلة مرَّة.
وهذا من خصائصِ هذا الشَّهر المبارك، الَّذي يبارك الله فيه للمخْلصين في أوقاتِهم وعبادتِهم، فلا عجب.
• بل إنَّ الشَّافعي كان يَختم القُرآن في شهْر رمضان ستِّين ختمة، وفي كل شهرٍ ثلاثين ختمة، يَختمه في صلاة، وليس قراءة، والخبر مشْهور في كتُب السير.
• وكان وكيع بن الجرَّاح “يقرأُ القرآن في رمضان في الليل ختمة وثلثًا، ويصلِّي مع ذلك اثنتي عشرة ركعة من الضِّحى، ويصلِّي من الظهر إلى العصر”.
• ويقول عبدالرَّحمن بن هرمز: “كان القرَّاء يقومون بسورة البقَرة في ثَمان ركَعات، فإذا قام بِها القرَّاء في اثنتَي عشرةَ ركعة، رأى النَّاس أنَّه خفّف عنْهم”.
• ويقول ابنُ أبي مُليْكة: “كنتُ أقومُ بالنَّاس في شهر رمضان، فأقرأُ في الرَّكعة: “الحمد لله فاطر” (46 آية) ونحوَها، ما يبلُغُني أنَّ أحدًا يستثْقِل ذلك”.
• وقام رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – بأصحابه مرَّة إلى ثلُث اللَّيل، ومرَّة إلى نصْف اللَّيل، فقالوا: لو نفلْتنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال: ((إنَّه مَن قام مع الإمام حتَّى ينصرِف، كتب له قيام ليلة))؛ صحيح أبي داود.
• وكانت امرأة أبي محمَّد حبيب الفارسي تقول له بالليل: “قد ذهب اللَّيل، وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصَّالِحين قد سارت قُدَّامَنا، ونحن قد بقينا”.
ويدلُّ كلُّ ذلك على شغَفهم الشَّديد بالصَّلاة، وولعِهم بحضور الجماعة، فقد كان الرَّبيع بن خُثيم – رحِمه الله – بعد ما سقط شقه – أي: أصابه الشَّلل النصفي – يهادَى بين الرجُلين في المسجد، وكان أصحابُه يقولون له: يا أبا اليزيد، قد رخَّص الله لك لو صلَّيت في البيت، فيقول: “إنَّه كما تقولون، ولكنِّي سمِعْتُه ينادي: حيَّ على الفلاح، فمَن سمع منكم: حيَّ على الفلاح، فليُجِبْه ولو زحفًا، ولو حبوًا”.
وعن ابن المسيب قال: “ما فاتتْني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة، وما فاتتني التَّكبيرة الأولى منذ خَمسين سنة، وما نظرتُ في قفا رجُل في الصَّلاة منذ خَمسين سنة”.
وعن عبدالله بن الشخير – رضِي الله عنه – قال: “أتيتُ رسولَ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وهو يصلِّي، وفي صدْره أزيز كأزيز المرجل من البكاء”؛ صحيح أبي داود.
وقال وكيع: “كان الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفُتْه التَّكبيرة الأولى، واختلفتُ إليه قريبًا من ستِّين سنة، فما رأيتُه يقْضي ركعة واحدة”.
وقال ابن وهب: رأيتُ سفيان في الحرَم بعد المغرب صلَّى، ثم سجد سجدةً، فلم يرجع حتى نودي للعشاء.
وقال الحسين: “تزوَّج عثمان بن أبي العاص امرأةً من نساء عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: “واللهِ، ما نكحتُها حين نكحتُها رغبةً في مال ولا ولد، ولكن أردتُ أن تُخْبِرني عن ليل عمر”.
وقد قال الحافِظ ابن كثير عن ليْل عمر: “كان يصلِّي بالنَّاس العشاء، ثم يدخُل بيْتَه فلا يزال يصلِّي إلى الفجْر”.
ويقول نافع عن ابن عمر – رضِي الله عنهم أجْمعين -: “إنَّه لمَّا قرأ قولَه تعالى: ﴿ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 284] بكى بكاءً شديدًا، وأخذ يردِّد: والله، إنَّ هذا الإحْصاء لشديد، والله إنَّ هذا الإحصاء لشديد”.
وكان ابن مسعود إذا هدأتِ العيون، قام، فيُسمَع له دويٌّ كدويِّ النَّحل حتى الصبح.
وكان علي بن أبي طالب إذا حضر وقْت الصَّلاة، يتزلزل ويتلوَّن وجهُه، فقيل له: “ما لك يا أميرَ المؤمنين؟”، قال: “جاء وقت أمانةٍ عرضَها الله على السَّموات والأرض والجبال، فأبيْن أن يحمِلْنها، وأشفقن منها، وحملتُها”.
وقيل للحسن: ما بال المتهجِّدين من أحسن النَّاس وجوها؟ قال: “لأنَّهم خَلَوا بالرَّحمن، فألبسَهم نورًا من نورِه”.
وقال أبو النضر إسحاق بن إبراهيم: “كنت أسمع وقْع دموع سعيد بن عبدالعزيز – يقصد إمام أهل الشام التنوخي – على الحصير في الصَّلاة”.
وقال أبو عبدالرحمن الأسدي: قلت لسعيد بن عبدالعزيز: ما هذا الَّذي يعرض لك في الصَّلاة؟ فقال:”يا ابن أخي، وما سؤالُك عن ذلك؟” قلتُ: لعلَّ الله أن ينفعني به، قال: “ما قُمتُ إلى الصَّلاة إلا مثلتْ لي جهنَّم”.
وقال حاتم الأصم: “فاتتْني صلاة الجماعة، فعزَّاني أبو إسحاق البخاري وحْده، ومات لي ولدٌ، فعزَّاني أكثر من عشَرة آلاف، ولأن مصيبة الدِّين أهْون عند النَّاس من مصيبة الدنيا”.
تَزَوَّدْ مِنَ التَّقْوَى فَإِنَّكَ لا تَدْرِي
إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الفَجْرِ
فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ
وَكَمْ مِنْ سَقِيمٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ
وَكَمْ مِنْ صَبِيٍّ يُرْتَجَى طُولُ عُمْرِهِ
وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لا يَدْرِي
فهؤلاء هم الرِّجال الذين يفتخر بهم، ويُذكَرون في المواطن.
عن حذيفة قال: جاء أهل نجْران إلى رسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فقالوا: ابعثْ عليْنا رجُلاً أمينًا، فقال: ((إني أبعثُ إليكم رجلاً أمينًا))، فاستشرف لها أصحابُ رسولِ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فبعث أبا عُبيدة بن الجراح؛ رواه البخاري، وقال فيه – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لكلِّ أمَّة أمين، وأمين هذه الأمَّة أبو عبيدة بن الجرَّاح))؛ متَّفق عليه.
وقال عمر لجلسائِه: “تمنَّوا”، فتمنَّوا، فقال عُمر: “لكنِّي أتمنَّى بيتًا ممتلئًا رجالاً مثل أبي عُبَيْدة بن الجرَّاح”؛ المستدرك.
هؤلاء فرسان الليل.
كان أبو إسحاق السَّبيعي – رحمه الله – يقول: “يا معشر الشَّباب، جدُّوا واجتهدوا، وبادروا قوَّتكم، واغتنِموا شبيبتَكم قبل أن تعجزوا، فإنَّه قلَّ ما مرَّت عليَّ ليلة إلاَّ قرأت فيها بألف آية”.
وكان عبدالواحد بن يزيد – رحِمه الله – يقول لأهله في كل ليلة: “يا أهلَ الدَّار، انتبهوا – أي: من نومكم – فما هذه – أي: الدنيا – دار نوم، عن قريب يأكلُكم الدود”.
وقال محمد بن يوسف: كان سفيان الثَّوري – رحِمه الله – يُقيمنا في اللَّيل ويقول: “قوموا يا شباب، صلُّوا ما دمتم شبابًا، إذا لم تصلُّوا اليوم، فمتى؟!”.
وكان بعض الصَّالحين يقف على بعض الشَّباب العبَّاد إذا وضع طعامهم، ويقول لهم: لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فتناموا كثيرًا، فتخسروا كثيرًا”.
وقال أبو جعفر البقال: “دخلتُ على أحمد بن يحيى – رحمه الله – فرأيتُه يبكي بكاء كثيرًا ما يكاد يتمالك نفسه، فقلت له: أخبرني ما حالك؟ فأراد أن يكتُمني فلم أدعْه، فقال لي: فاتني حزبي البارحة، ولا أحسب ذلك إلاَّ لأمر أحدثتُه، فعوقبت بمنْع حزبي، ثم أخذ يبكي”.
وقال رجل للحسَن البصري: أعياني قيام الليل، فقال: “قيَّدتْك خطاياك”.
وقالت امرأة مسروق بن الأجْدع: “واللهِ، ما كان مسروق يُصْبِح من ليلة من اللَّيالي إلاَّ وساقاه منتفِخَتان من طول القيام”، وكان – رحِمه الله – إذا طال عليه الليل وتعب، صلَّى جالسًا ولا يترك الصَّلاة، وكان إذا فرغ من صلاتِه يزحف – أي: إلى فراشه – كما يزحف البعير!
وكان ثابت البناني قد حبِّبَتْ إليه الصلاة، فكان يقول: “اللَّهمَّ إن كنتَ أذِنت لأحدٍ أن يصلِّي لك في قبره، فائذن لي أن أصلِّي في قبري”.
وقال أبو الدرداء: “لوْلا ثلاث ما أحببتُ العيش يومًا واحدًا: الظَّمأ لله بالهواجر، والسُّجود لله في جوْف الليل، ومجالسة أقْوام ينتقون أطايِبَ الكلام كما ينتقى أطايب الثَّمر”.
وقال عبدالله بن داود: “كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة، طوى فراشه”؛ أي: كان لا ينام طول الليل.
وقال أحمد بن حرب: “يا عجبًا لِمن يعرف أنَّ الجنَّة تُزَيَّن فوقه، وأنَّ النَّار تسعَّر تحته، كيف ينام بيْنهما؟!”.
قال معْمر: “صلَّى إلى جنبي سليمان التيْمي – رحِمه الله – بعد العشاء الآخرة، فسمعتُه يقرأ في صلاتِه: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الملك: 1] حتَّى أتى على هذه الآية: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [الملك: 27]، فجعل يردِّدها حتَّى خفَّ أهل المسجد وانصرفوا، ثمَّ خرجتُ إلى بيْتي، فلمَّا رجعتُ إلى المسجد لأؤذِّن الفجر، فإذا سليمان التيْمي في مكانه كما تركتُه البارحة، وهو واقف يردِّد هذه الآية لم يُجاوزها: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.
وقال الفُضَيْل بن عياض – رحِمه الله تعالى -: “إذا لم تقْدر على قيام اللَّيل، وصيام النَّهار، فاعلم أنَّك مَحْروم مكبَّل، كبَّلتك خطيئتُك”.
وكان أحد الصَّالحين يصلِّي حتَّى تتورَّم قدماه، فيضربُها ويقول: “يا أمَّارة بالسوء، ما خلقتِ إلاَّ للعبادة”.
وصلَّى سيِّد التابعين: سعيد بن المسيب – رحِمه الله – الفجْر خمسين سنة بوضوء العِشاء، وكان يسرُد الصَّوم.
وقال يزيد بن أبان الرقاشي – رحِمه الله – : “إذا نِمْتُ فاستيقظْتُ، ثمَّ عُدتُ في النَّوم، فلا أنام اللهُ عيني”.
وكان عبدالعزيز بن أبي روَّاد – رحِمه الله – يُفرَش له فراشه لينام عليْه باللَّيل، فكان يضَع يده على الفراش فيتحسَّسه ثمَّ يقول: “ما ألْيَنك! ولكن فِراش الجنَّة ألين منك”، ثمَّ يقوم إلى صلاته.
قال أبو سليمان الداراني – رحمه الله -: “ربَّما أقوم خَمْسَ ليالٍ متوالية بآيةٍ واحدة، أردِّدُها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها، ولولا أنَّ الله تعالى يمنُّ عليَّ بالغفلة، لما تعدَّيت تلك الآية طول عمري؛ لأنَّ لي في كلٍّ تدبُّر علمًا جديدًا، والقُرآن لا تنقضي عجائبُه”.
قال رجلٌ لإبراهيم بن أدهم – رحِمه الله -: إني لا أقْدِر على قيام اللَّيل، فصف لي دواء، فقال: “لا تعْصِه بالنَّهار، وهو يقيمُك بين يديْه في اللَّيل، فإنَّ وقوفك بين يديْه في اللَّيل من أعْظم الشرف، والعاصي لا يستحقُّ ذلك الشَّرف”.
فاللهُمَّ وفِّقْنا إلى ما تُحبُّه وترْضاه، واجعلْنا ممَّنِ اعتنى برمضان، فصام يومَه، وأحيا ليْله، وقضى حقَّه.