د. محمد ويلالي
تقول عائشة – رضي الله عنها -: “كان يَجتهِد في العشْر الأواخِر ما لا يَجتهِد في غيرها”؛ كما رواه مسلم.
وتقول – رضِي الله عنْها -: “كان النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – إذا دخَل العشْر، شدَّ مِئْزَرَه، وأحْيا ليْلَه – سهِره؛ أي: تعبَّد معظم الليل – وأيْقظ أهله”؛ متَّفق عليه.
قال النَّوويُّ: “يُستحبُّ أن يُزاد من العبادات في العشْر الأواخر من رمضان، وإحياء لياليه بالعبادات”.
وقال الشَّافعيُّ: “أستحبُّ أن يكونَ اجتِهادُه في نهارِها كاجتهادِه في ليلِها”.
وكان النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يلتزِم ذلك، ويحثُّ أهلَه وأمَّتَه عليه، قال عليُّ بنُ أبِي طالب – رضِي الله عنْه -: “كان النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يوقِظ أهلَه في العشْر الأواخر من رمضان”؛ صحيح سنن التِّرْمذي.
كيف وفيها ليْلة القدر، التي هي خير من عبادة ألْف شهر؛ أي: 83 سنة وأربعة أشهر، قال بعض أهل العلم: “هِي خيرٌ من الدَّهر كلِّه؛ لأنَّ العرب تذكُر الألف غاية في العدد”، وهي ليلة ﴿ تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ [القدر: 4]، إنَّها اللَّيلة التي تتنزَّل فيها الملائكة حتَّى تكون أكثر في الأرض من عدَد الحصى.
وقال النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ليْلة القدْر: ليلة سابعةٍ أو تاسعةٍ وعشرين، إنَّ الملائكة تلك الليلة في الأرْض أكثر من عدَد الحصى))؛ صحيح الجامع.
يؤمِّنون على دعاء النَّاس، ويسلِّمون على أنفُسِهم وعلى المؤمنين في المساجِد حتَّى يطلع الفجْر.
وهي ليلة الحُكْم؛ ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]، وهي الليلة التي مَن قامها إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه.
فوجب الاهتمام بهذِه اللَّيلة وتعْظيم أمرِها، قال الورَّاق: “سمِّيتْ ليلة القدر؛ لأنَّه نزل فيها كِتاب ذو قدْر، على لسان مَلَك ذي قدْر، على رسولٍ ذي قدْر، وأمَّة ذات قدْر”.
قال الزهري: “سمِّيتْ ليلة القدر؛ لِعِظَمها وقدْرها وشرَفها، من قولهم: لفلان قدْر؛ أي: منزلة”.
فيا مَن أراد الرفعة في الدارَين، وأراد الفوز بالمرتبتَين، استغلَّ فرصة العشر؛ لجبر ما مضى.
تَنَصَّفَ الشَّهْرُ وَالَهْفَاهُ وَانْصَرَمَا
وَاخْتَصَّ بِالفَوْزِ بِالجَنَّاتِ مَنْ خَدَمَا
وَأَصْبَحَ الغَافِلُ المِسْكِينُ مُنْكَسِرًا
مِثْلِي فَيَا وَيْحَهُ يَا عُظْمَ مَا حُرِمَا
مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِي وَقْتِ البِذَارِ فَمَا
تَرَاهُ يَحْصُدُ إِلاَّ الهَمَّ وَالنَّدَمَا
طُوبَى لِمَنْ كَانَتِ التَّقْوَى بِضَاعَتَهُ
فِي شَهْرِهِ وَبِحَبْلِ اللَّهِ مُعْتَصِمَا
وقد أخْفاها ربُّنا – عزَّ وجلَّ – حتَّى لا يُقتصَر في العبادة عليْها، دون سائر العشر.
قال الفخر الرازي – رحِمه الله -: “إنَّ الله أخْفى هذه اللَّيلة لوجوه، أحدها: أنَّه أخفاها كما أخْفى سائر الأشياء، فإنَّه أخفى رضاه في الطَّاعات حتَّى يرْغبوا في الكلِّ، وأخْفى غضبه في المعاصي ليحترِزوا عن الكلِّ، وأخفى الإجابة في الدُّعاء ليبالغوا في كلِّ الدعوات، وأخْفى قبول التوبة ليواظِب المكلَّف على جَميع أقسام التَّوبة”.
وفي حديث عبادة بن الصَّامت – رضِي الله عنْه – قال: خرج رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – ليخبِر النَّاس بليلة القدْر، فتلاحى – تنازع وتخاصم – رجُلان من المسلِمين، فقال النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((خرجتُ لأخبِرَكم، فتلاحى فلان وفلان، وإنَّها رفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمِسوها في التَّاسعة والسَّابعة والخامِسة))؛ البخاري.
وقال – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((وقدْ رأيتُ هذه اللَّيلة فأُنسيتُها، فالتمِسوها في العشْر الأواخر في كلِّ وتر))؛ مسلم.
وأرْجح الأقْوال أنَّها في الوِتْر من العشْر الأواخر، وأنَّها تنتقِل.
وأرْجى أوْتار العشر عند الجمهور: ليلة سبْع وعشرين؛ “فتح الباري”.
عن زِرِّ بن حُبَيْش قال: سألتُ أُبَيَّ بن كعب – رضِي الله عنْه – فقلتُ: إنَّ أخاك ابن مسعود يقول: “مَن يَقُم الحوْل يُصِبْ ليلةَ القدْر”، فقال – رحِمه الله -: “أراد ألاّ يتَّكل النَّاس، أما إنَّه قد علم أنَّها في رمضان، وأنَّها في العشْر الأواخر، وأنَّها ليلة سبع وعشرين”، ثمَّ حلف – لا يستثني – أنَّها ليلة سبع وعشرين، فقلتُ: بأيِّ شيءٍ تقول ذلك يا أبا المنذِر؟ قال: بالعلامة أو بالآية الَّتي أخبرَنا رسولُ الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها”؛ مسلم.
ويدلُّ عليْه أيضًا قولُه – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((تحرَّوا ليْلة القدْر، فمَن كان متحرِّيَها فليتحرَّها في ليْلة سبعٍ و عشْرين))؛ صحيح الجامع.
وقالتْ عائشة – رضِي الله عنْها -: قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيت إن علمْتُ أي ليلةٍ هيَ ليلة القدر، ما أقولُ فيها؟ قال: ((قولي: اللهمَّ إنَّك عفوٌّ تُحبُّ العفو فاعفُ عنِّي))؛ متَّفق عليْه.
ولقدِ اهتمَّ السَّلف بهذه العشْر، وهذه الليلة أيّما اهتِمام.
يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا
رُبَّ صَوْتٍ لا يُرَدُّ
لا يَقُومُ اللَّيْلَ إِلاَّ
مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ
ومن فرْط حبِّهم لهذه اللَّيالي المباركة: أنَّهم كانوا يستحبُّون أن يغتسِلوا كلَّ ليلةٍ من لياليها – كما كان يفعل النخعي – وكان أيُّوب السختياني يغتسِل ليلة ثلاث وعشرين، وأربع وعشرين، ويلبَس ثوبَين جديدين، ويتطيَّب.
ورُوي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنَّه إذا كان ليلة أرْبع وعشرين، اغتسل وتطيَّب، ولبس حلَّة: إزار ورداء، فإذا أصبح طواهُما فلم يلبَسْهما إلى مثلِها من قابل.
وكان ثابتٌ البناني وحميدٌ الطَّويل يلبَسان أحسنَ ثيابِهما، ويتطيَّبان ويطيِّبان المسجد بالنَّضوح في اللَّيلة التي تُرْجَى فيها ليْلة القدر.
وقال ثابتٌ: وكان لتميم الدَّاريِّ حُلَّة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
ولَم يكونوا يقتصِرون في إحياء العشر على أنفسهم، بل كانوا يوقظون نساءهم وأبناءهم، تأسِّيًا برسول الله – صلَّى الله عليْه وسلَّم – قال ابن رجب: “ولم يكُن النبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – إذا بقي من رمضان عشَرة أيَّام، يدَع أحدًا من أهلِه يُطيق القيام إلاَّ أقامه”.
وقال سفيان الثَّوري: “أَحب إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يَتهجَّد باللَّيل، ويَجتهِد فيه، ويُنهِض أهله وولدَه للصَّلاة إن أطاقوا ذلك”.
بل كان هذا ديْدن عمر بن الخطَّاب في سائر الأيَّام، فقد كان يصلِّي من اللَّيل ما شاء الله، حتَّى إذا كان نصف اللَّيل، أيْقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم: الصَّلاةَ الصَّلاة، ويتلو: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132].
وهذا ابن عبَّاس – رضِي الله عنْه – قال: “بتُّ عند خالتِي ميْمونة ليلة، فقام النَّبيُّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فلمَّا كان في بعْض اللَّيل، قام الرَّسول – صلَّى الله عليْه وسلَّم – فتوضَّأ من شنٍّ معلَّقة وضوءًا خفيفًا ثمَّ قام يصلِّي، فقُمت فتوضَّأت نحوًا ممَّا توضَّأ، ثمَّ جئتُ فقُمت عن يسارِه، فحوَّلني فجعلنِي عن يَمينه، ثمَّ صلَّى ما شاء الله”.
قال إبراهيم بن وكيع: “كان أبي يصلِّي، فلا يبقى في دارِنا أحدٌ إلاَّ صلَّى، حتَّى جارية لنا سوداء”.
كان طلحة بن مصرف يأمُر نساءَه وخدمه وبناتِه بقيام الليل، ويقول: “صلُّوا ولو ركعَتَين في جوْف اللَّيل، فإنَّ الصَّلاة في جوْف اللَّيل تحطُّ الأوْزار، وهى من أشْرف أعمال الصَّالحين”.
قال إبراهيم بن شماس: “كنتُ أعرِف أحمد بن حنْبل وهو غُلام يُحيي اللَّيل”.
وكان ابنُ عُمَر يقرأ هذه الآية: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 9]، قال: “ذاك عثمان بن عفان – رضي الله عنه”.
وقال ابنُ أبي حاتم: “وإنَّما قال ابنُ عمر ذلك؛ لكثرة صلاةِ أمير المؤمنين عُثمان باللَّيل وقراءته، حتَّى إنَّه ربَّما قرأ القُرآن في ركعة”.