
شذرات في فضل العلم وأثره على أهله
فبراير 16, 2022
العلم والإيمان سبيل رفعة الدارين
فبراير 21, 2022عبدالله رمضاني
الزكاة في المنظور الإسلامي ليست كما يدعي بعضهم عملًا فرديًّا، أو عملًا موكولًا إلى رحمة الناس، وليست مرتبطة بمدى استجابة الإنسان لعواطف الخير ونزعات البر، متى أراد التملص منها والتوقف عن أدائها كان له ذلك، فهذا ادعاء لا نصيب له من الصحة أو الواقع، ولم يجئ به الإسلام، ولم يقل به أحد من علماء المسلمين، بل هي اقتناع إيماني، وإشهاد قلبي على الفرض الإلهي، وهي كذلك أداء للواجب الديني المحتوم.
فالإنسان المسلم ينبغي له أن يؤدي هذا الحق الرباني، وهو لا يجد في نفسه حرجًا أو نزعة امتعاض مما يخرجه من ماله الذي هو في الأصل مال الله. فالنفس عادة تجزع أن يؤخذ منها ولو جزء مما تحبه أو تملكه، كما أنها يخيل لها أحيانًا أنها قد تُمْنى بالفقر والإملاق بهذا الإنفاق.
ولهذا كان الإسلام حكيمًا حينما اهتم بهذا الجانب المادي وعلاقته بالنفس البشرية، حيث أيقظ في نفوس الأفراد والجماعات عواطف الخير والبر، ولفت إليها مجالات التصدق والإحسان، ومجالات الإفاضة في عمل الخير، وحبب إليها فعل الخيرات والتسابق فيه، وبيّن لها أن ما تقوم به هو من قبيل مقتضيات العبودية وإخلاص النية والعمل لله عز وجل، وعلّمها كيف تتجرد من الماديات والطمع في غبش الدنيا وحطامها الزائل وتوظيفها في خدمة البشرية والإنسانية جمعاء.
وحتى لا يزداد الإنسان عشقاً وحبًا للمال وحرصًا عليه، نبهه الإسلام إلى مسألة جوهرية سقطت من حسبانه، تكمن في كون أن كل ما يملكه هذا الإنسان الضعيف الذي يطمع في الزيادة دائما إنما هو مستخلف فيه فقط، ومردّ ذلك كله إلى الله تعالى وحده، فهو الذي أغنى وأقنى، وأعطى وأمسك، وأضحك وأبكى، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، ينزع المال والملك ممن يشاء ويعطيهما لمن يشاء.
إن الإسلام بمجيئه بهذه الفريضة المباركة إنما أراد، فيما أراده، أن يؤسس لثقافة تربوية مادية واقتصادية تؤمن بها البشرية وتتربى عليها، وتمتثلها وجدانيا وسلوكيا؛ إذ من المعلوم أن أرقى المجتمعات في النواحي المادية لا يخلو من وجود محتاجين وفقراء، فمهما ارتفعنا بمستوانا المادي فسيظل هناك أناس يحتاجون إلى معاونة ومساعدة، لذلك كان الإسلام حكيمًا ورحيمًا بفرضه الزكاة، حيث تجد فيها هذه المجتمعات الإجابة الشافية والكافية لهذه الآفة والمعضلة الاجتماعية التي تعاني منها، والحل السعيد لكل القلوب البائسة والعيون الحزينة. إنه مشروع إسلامي اقتصادي لطالما عرف تهميشًا وإقصاءً في مجال حل المشاكل الاجتماعية والمادية التي تتخبط فيها الأنظمة والبرامج الاقتصادية العالمية الآن.
وفي المنظور الإسلامي أيضًا: ليست مصارف الزكاة مقصورة على أفراد يحتاجون احتياجًا ظاهريًّا، بل يوجد من هذه المصارف ما يتسع نطاقه وينفسح مداه إلى مسافات بعيدة من جهات الإصلاح ووجوه العمران؛ ولذلك يذهب بعض الفقهاء في تفسير قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] مذاهب واسعة، تجعل كثيرًا من وجوه الإصلاح تدخل في هذا المصرف من مصارف الزكاة، وهو {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بالإضافة إلى ذلك أنه ليس في الإسلام فرق بين الفقراء والمساكين من حيث الحاجة والفاقة، ومن حيث استحقاقهم الزكاة، فقد جاء في الحديث ما يدل على أن المساكين هم الفقراء الذين يتعففون عن السؤال، ولا يتفطن لهم الناس فذكرتهم الآية، لأنه ربما لا يُفطن إليهم، لتجمّلهم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف»، اقرأوا إن شئتم: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273]، وفي لفظ: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفطن له، فيُتصدَّق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» (1). و عن علي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذّبهم عذابًا أليمًا» (2).
وذلك لأن من مقاصد الزكاة في الإسلام كفالة الفقير وسدّ حاجته، فيعطى من الصدقة القدر الذي يخرجه من الفقر إلى الغنى، ومن الحاجة إلى الكفاية، وعلى الدوام، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إذا أعطيتم فأغنوا”. وبهذا الفهم الصحيح للزكاة نكون قد أخرجنا هذه الفريضة مما هو شائع لدى عوام الناس كونها لا تتعدى دريهمات تخرج على الفقراء لا تفي لسد لقمة يوم واحد، ومنحناها، في مقابل ذلك، وظيفة سامقة تليق بما أحاطها الله عز وجل من مكانة وتقدير. لو يعلم المرء ما للزكاة من عائدات خيرات وبركات وتمكين ورحمة تفوق بأضعاف مضاعفة لا تعد ولا تحصى، لما تباطأ وتهاون عن أدائها، ولتمنى لو تكون له خزائن ينفق منها أبدا دون انقطاع، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
وفي الحديث عن أبي كبشة الأنماري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة أقسم عليهن وأحدّثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال من صدقة، ولا ظُلم عبدٌ مظلمةً فصبر عليها إلا زاده بها عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» (3). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عزّ وجلّ يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه فيربّيها لأحدكم كما يربّي أحدكم مُهرَه أو فَلُوَّه أو فصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد» (4). قال وكيع: وتصديق ذلك في كتاب الله قوله: {أَلَم يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ هُو يَقبلُ التوبةَ عَنْ عِبادِهِ} [التوبة:104]، {يمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276].
وصفوة القول: إن الزكاة شرعها الله لتكون عبادة مالية خالصة مخلصة لوجهه وفي سبيله، ليعلم عباده كيف يترفعون عن الأحقاد والأضغان والمعاداة، ولذلك جعل الله فريضة الزكاة فرصة للإخاء والصفاء والتنزه عن الخلاف والاعتساف والخصومة، والتطهر من كل أسباب التمرد والانحراف.
وقد جعلها الله تعالى، أيضا، مناسبة لتجميع الأمة وتأليف قلوبها، وتوحيد صفوفها وتقوية شوكتها، كما يريد سبحانه لهذه الأمة أن تكون متكافلة متضامنة، تبدو كتلة واحدة إذا تحركت بأجمعها، لأن كل جزء منها ملتئم مع بقية الأجزاء ومرتبط بها، ومن هنا صور الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة بهذه الصورة الرائعة: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (5).
ــــــــ
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه الطبراني في الأوسط.
(3) رواه الترمذي.
(4) رواه أحمد والترمذي وصححه، والمهر والفلو: ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة.
(5) رواه البخاري ومسلم.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي (العدد 584) (بتصرف يسير).