
فوائد منتقاة من الأدب المفرد للبخاري (رحمه الله) (4)
يوليو 1, 2023
همسات حول دور المرأة المسلمة في العمل التطوعي
يوليو 3, 2023أيمن الشعبان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الحج ركنٌ من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره العظام، وعبادة اجتمعت فيها العديد من الحِكم والنفحات، والفوائد والتجليات، والأسرار والروحانيات، والمنافع والعظات، وموسمٌ استثنائي من مواسم الخيرات، والمنافسة في الطاعات، وتحصيل البركات، وتكثير الحسنات وتكفير السيئات.
بعيداً عن صفة الحج وأنواع النسك وتفاصيلها، وما يتعلق بها من شروط وأركان وواجبات ومستحبات ومنهيات ومحظورات، فقد أطنب العلماء والفقهاء فيها وأكثروا من المؤلفات والتصنيفات، والأكثر يحرصون ويهتمون بأعمال البدن والهدي الظاهر مع أهميتها، ولكن أعمال القلوب مقدمة على أعمال الجوارح.
لذلك سأركز في حديثي وأسلط الضوء على قضية غاية في الأهمية، لها ارتباط في المقصد الأسمى والغاية العظمى، لهذه الفريضة والقُربة، بل هي غاية جميع العبادات وروحها وثمرتها، ومن دقائق الأسرار والمقاصد التي ينبغي أن يتفطن لها الحجيج ومن باب أولى الدعاة والمصلحون والمرشدون في حملات الحج.
إن تحقيق التقوى التي محلها القلب، هي غاية كل غاية، وثمرة كل عبادة، ومقصد كل طاعة وقربة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}[البقرة:21].
والتقوى باختصار: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وغضبه وقاية، والتقوى تخلية وتحلية، والتخلية بالترك مُقدمة على التحلية بالفعل، لذلك فإن الصحابة – رضوان الله عليهم- التزموا بكلمة التقوى التي هي “لا إله إلا الله” وأثنى الله عليهم بقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}[الفتح:26]، وكلمة التوحيد فيها نفي وإثبات، وتخلية وتحلية، وترك وفعل، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}[البقرة:256].
وهكذا في حكمة وثمرة الصلاة قدم الترك على الفعل، قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[العنكبوت:45]، وكذلك في الصيام قال تعالى مبينا غايته الكبرى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]، وفي إخراج الزكاة أيضا من أعظم غاياتها أنها تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة، فيكون فعلها يؤدي إلى الترك والتخلص من تبعات وآصار الخطايا، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}[التوبة:103].
اجتمع في شعيرة الحج جميع أنواع العبادات القلبية والمالية والبدنية والقولية:
– فمن العبادات القلبية: الإخلاص والمحبة والتوكل والخوف والرجاء والتعظيم والخضوع والافتقار والتوبة والإنابة والخشوع والرضا والصبر وغيرها.
– ومن العبادات المالية: الذبح والصدقات والنفقات.
– ومن العبادات البدنية: الصلاة والطواف والسعي.
– ومن العبادات القولية: الذكر والدعاء وتلاوة القرآن والاستعانة والاستغاثة.
ولمّا كانت الثمرة الجامعة للطاعات والعبادات تحقيق التقوى، ودواعي تحصيلها في الحج أقوى، والتخلية والترك – المبنية على سرعة الاستجابة والتسليم التام والانقياد الكامل- مقدمة على التحلية والفعل، كان لزاماً على العاقل الكيس الفطن الذكي، الذي يحسن استثمار الفرص والمواسم، أن يركز على حج القلوب لا مجرد الأبدان، وأعظم الثمار والعوائد والوصايا لا مجرد الهبات والهدايا، من مغفرة الذنوب وتكفير الخطايا.
يقول ابن القيم في مدارج السالكين (1/340): “فَإِنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، فَتَكُونُ صُورَةُ الْعَمَلَيْنِ وَاحِدَةً، وَبَيْنَهُمَا فِي التَّفَاضُلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونُ مَقَامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”.
ويقول ابن القيم في بدائع الفوائد (3/193): “من تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح”.
فالحج حجّان: حج القلوب وحج الأبدان، حج الباطن وحج الظاهر، حج حقيقي وحج صوري، حج غاية وحج وسيلة، حج كامل وحج ناقص، حج نتيجة وثمرة وحج مقدمة وسبب، لذلك فالعناية والرعاية الكبرى بحال القلب الذي هو محل الأجر والنظر والأثر، تكون ابتداءً بتخليته من الأدران والشوائب حتى يتحلى بالخشوع وصفاء الاعتقاد ونقاوة التوحيد وبلسم الإيمان، وحسن التوكل والتسليم وسرعة الاستجابة.
لكل عبادة وقربة وفريضة أثر عظيم في تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس وإصلاح القلوب، وسرُّ النُّسك وجوهرة الحج ودُرَّة الشعائر، في كبح جماح النفس عن التمادي في غيها وشهواتها، وكسر جمود وقسوة القلب في سرعة الاستجابة والانقياد لأحكام الشريعة!
إن فريضة الحج مدرسة كبرى لتزكية النفوس، وفرصة عظيمة لتهذيبها، ومعسكر فريد لتأهيلها، ودورة تدريبية لتطويعها، والسرُّ في ذلك هو الانعكاس الإيجابي والأثر الحقيقي لجميع هيئات وحركات وأفعال الحاج، على واقعه وتطبيقاته العملية، وفحوى ذلك وخلاصته في ترك ما اعتاده من محرمات ومنكرات وخطايا وآثام، قلبية وقولية وعملية، فلا يرجع بنفس القلب الذي بدأ فيه المناسك، بذلك يحقق الحج المبرور الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: “ليس له جزاء إلا الجنة”.
والحج المبرور مرتبط بالدرجة الأساس وسلم الأولويات، في أمور الترك التي اعتادها وألِفها العبد في حياته، لأن معيار الحج في تجديد الحياة الإيمانية وقطع الصلة بما علق بالنفس من شوائب الإثم، أو الانحراف عن الجادة، والتحلل من المظالم.