
عبرة الأندلس..! (1 من 2)
يناير 1, 2023
صناعة القادة..!
يناير 12, 2023محمد عبدالله عنان
كان هذا الخلاف يقضم أسس المجتمع الأندلسي الفتي، ولم يمضي على قيامه أربعون عاماً حتى تحولت الأندلس إلى بركان مضطرم من الحروب الأهلية؛ واستمرت هذه المعارك الداخلية زهاء قرن ونصف، ولم يقف تيارها قيام دولة أموية جديدة، ولم تتخللها في ظل هذه الدولة سوى فترة يسيرة من السكينة والتوطد، منذ الناصر إلى المنصور. بيد أن خطراً جديداً كان يتربص بهذه الدولة الاسلامية التي يمزقها الخلاف الداخلي ، وهو خطر المملكة النصرانية الأسبانية، التي نشأت صغيرة متواضعة ونمت بسرعة مدهشة، وأخذت تنافس المملكة الإسلامية، وتتحين فرص الإيقاع بها، ولم تفطن الأندلس إلى هذا الخطر الداهم؛ وما كاد صرح الدولة الأموية ينهار، حتى وثب المتغلبون على أشلاء الأندلس يقتسمونها، وقامت دويلات الطوائف في المقاطعات والمدن، تنافس بعضها بعضاً، وتحاول كل منها أن تنتزع ما بيد الأخرى، وألفى عدو الأندلس الخالد – أسبانيا النصرانية – فرصته السانحة، فأخذت تؤلب دويلات الطوائف بعضها على بعض؛ وملوك الطوائف يرتمون في أحضان النصارى، ويلتمس كل محالفتهم على خصمه ومنافسه. وكادت الأندلس يومئذ تسير مسرعة إلى قدرها المحتوم، وانتزع النصارى كثيراً من قواعدها وأراضيها، لولا أن ظهر في الميدان عامل جديد، هو قيام الدولة المرابطية فيما وراء البحر، ومقدم أميرها يوسف بن تاشفين إلى الأندلس على رأس جنوده البربر، ملبياً داعي الغوث من جانب ملوك الطوائف؛ فهنا استطاعت الدولة الإسلامية أن تنسى خلافها مدى لحظة، وأن تلقي على النصرانية بمؤازرة المرابطين هزيمة حاسمة في سهول الزلافة؛ ثم افتتح المرابطون الأندلس، وأقاموا بها دولة جديدة، ولكن الصرح القوي الباذخ كان قد أخذ ينهار؛ ولم يدم تماسك الدولة المرباطية طويلاً، فقامت بالأندلس ملوك طوائف بربرية جديدة، وعادت الأندلس تسير إلى فنائها، وجاء الموحدون بعد المرابطين، فوصلوا دولة البربر بالأندلس مدى حين.
ثم كانت دولة بني الأحمر بغرناطة، وكانت أندلس جديدة، ولكن صغيرة لا تعدو القطر الجنوبي المسمى بهذا الاسم؛ وكانت أسبانيا النصرانية قد نمت واتسع نطاقها، واستولت على قواعد الأندلس وثغوره العظيمة: قرطبة مهد الإسلام، وطليطلة، وأشبيلية، ومرسية، وبلنسية، وسرقسطة وغيرها، وسطعت في مملكة غرناطة، مدى حين، لمحة من عظمة الأندلس الذاهبة وحضارتها الزاهرة، واجتمعت أشلاء الدولة الأندلسية العظيمة في هذه المملكة الصغيرة المتواضعة، وشغلت الممالك النصرانية الشمالية مدى حين بخلافها الداخلي. ولكن الأندلس كانت تشعر بمصيرها شعوراً قوياً، واستطاع رجال مثل ابن الخطيب وابن خلدون أن يستشفوا ببصرهم الثاقب ذلك المصير المروع الذي تسير إليه مملكة غرناطة. ذلك أن نفس الخلاف الداخلي الذي قامت عليه الدولة الإسلامية منذ البداية، واستمر يدفع الأندلس إلى مصيرها خلال القرون، كان يعصف أيضاً بهذه المملكة الصغيرة، ولم يمض بعيد حتى أخذت تمزقها المعارك الداخلية، ويثب أمراؤها بعضهم ببعض، ويستعدون خلال هذه المعركة الخطرة، العدو الرابض المتربص بهم جميعاً.
وكان مصرع الأندلس خلال إحدى هذه المعارك الداخلية، وما زالت قصة السلطان أبي الحسن، وأخيه الزغل، وابنه عبد الله أبي محمد، وانشقاق المملكة الصغيرة في أدق ساعات الخطر إلى شطرين، والتجاء أبي عبد الله إلى ملك النصارى لينصره على أبيه وعمه، ثم انتهاز النصارى هذه الفرصة لإيقاع ضربتهم الأخيرة بتلك المملكة التي مهدت لهم سبل الظفر بتمزيق بعضها بعضاً، وتلك الأمة المسلمة التي لم تعرف قط أن تواجه الخطر متحدة الكلمة والقوى – ما زالت هذه كلها عبرة العبر، وكان مصرع الأندلس هذه المرة يسيراً محققاً، فسقطت قواعدها الباقية تباعاً في يد النصارى، وسلمت غرناطة أخيراً، ووقعت النتيجة المحتومة، وطويت صفحة الدولة الإسلامية في الأندلس، ولم يمض جيل أو اثنان حتى طويت صفحة الإسلام كله، وكل آثاره وذكرياته من أسبانيا.
وقد كانت مأساة الأندلس وما زالت عبرة بالغة ودروساً خالداً للعالم الإسلامي كله. ولكن العالم الإسلامي لم يعتبر بهذه العبرة، ولم يع هذا الدرس، وما زال التفرق يمزق أوصاله حتى التهم الغرب الجشع معظم أشلائه، وأضحى الإسلام ذليلاً في أرضه تخفق عليها أعلام النصرانية.
فأنى يسير الإسلام؟ ومتى يدرك العالم الإسلامي قوة الاتحاد؟
ــــــــــــــــ
* نُشرت في مجلة الرسالة العدد 93ص585 القاهرة، يوم الاثنين 12 محرم 1354هـ، الموافق 15 ابريل 1935م السنة الثالثة.