أحمد فتحي النجار
لقد حظى العمل الخيري والإنساني في آيات القرآن الكريم بعناية كبيرة جدًّا، واهتمام عريض في محكم التنزيل، حيث اقترنت الدعوة الربانية القرآنية للعمل بشرائع الإسلام، وتأدية عباداته، والقيام على أحكامه وطقوسه بضرورة فعل الخيرات وتقديم كافة مظاهر العون وأنواع الزكاة و الصدقات والهبات والعطايا وإغاثة الإنسان ودعم المحتاج، وغيرها من صور العمل الخيري؛ رحمة بالفقراء والمحتاجين، ومن عظمة الآيات الكريمات أنها لم تفصل أو تحول بين العبادة بكافة شعائرها المادية والروحية بما فيها الركوع والسجود وبين وجوب فعل الخير والحض عليه، وما يترتب عنه من نفع للعباد والبلاد، والسعي في الصالح العام والخاص (1) كجزء من شعائر الإسلام التي يطالب بها المسلم (على وجهي الوجوب والاستحباب) والتي لا شك تفضي إلى فلاح الإنسان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الحج: 77)، بل كركن أساسي من أركان الإسلام متمثلًا في فريضة الزكاة لقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 43) وغيرها من الأدلة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد إذ إن واحدة من مظاهر عظمة القرآن هي دعوته وتحريضه للمؤمنين إلى المسارعة والتسابق نحو كل أعمال الخير التطوعية الإضافية بقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (المائدة: 48)، وأن يقوم فريق من الناس بالدعوة إلى الخير؛ لقوله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (آل عمران: 104)، وذلك لأهمية العمل الخيري في تحقق التقوى من العباد لله ربهم بصدقاتهم وفيوض خيراتهم وكافة أنواع عطاياهم، بالشكل الذي يساهم في تحقيق أمن المجتمعات، فقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج:37)، ناهيك بأهميته أيضًا في تحقيق الإشباع اللازم للحاجات الأساسية بل والحاجات الفرعية التي تساعد في حفظ الإنسان باعتباره خليفة الله في أرضه ضعيفًا كان أم قويًّا، وفقيرًا ثم غنيًّا، وفق تدرج عادل يضمن تحقيق الهدف القرآني الأسمى، بل ويتعداه لغيره من المخلوقات كالطير والدواب، ولذلك فقد تعددت الآيات في كل مواطن وسور القرآن بما يؤكد على أهمية العمل الخيري، واعتباره غاية كبرى من الغايات الأساسية التي تتحقق بها مقاصد الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكًا.
ومن ثم فليس من المستغرب أن يزخر التاريخ الإسلامي بصور العطايا والمنح والصدقات التي كانت ولازالت تعتبر واحدة من أسباب النهوض، والارتقاء بالمسلمين على مر التاريخ “دولة” بكافة مؤسساتها ومقوماتها و “شعبًا” بكل طوائفه وفئاته، ومثال ذلك ما قدمه المسلمون الأوائل من منح وهبات وصدقات وعطايا عملاقة في سبيل الله بمجرد سماع أحدهم آية تدعو للإنفاق، وتبشر المنفق بعطاء الله ورضوانه، ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه روى أنه لما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92)، فلما سمعها أبو طلحة الأنصاري بادر إلى وقف أحب أمواله إليه وهو بستان كبير كثير النخل وهو (بيرحاء).
ولم يكن فعل أبو طلحة رضي الله عنه أو غيره من الصحابة فعلًا عابرًا تحت تأثير وقتي لآية تغلغلت في ثنايا الروح فحرضت النفس على المنح والعطاء، إذ أصبح العطاء وفعل الخيرات بصورة طوعية واحدة من الثقافات الإسلامية الأساسية، والسلوكيات الاعتيادية للمسلمين غير فريضة الزكاة التي شرعها الله سبحانه وتعالى في القرآن المعظم، والذي لم تتوقف آياته عن التحريض والحث نحو كل فضيلة وبر.
__
(1) عبدالقادر شيبة الحمد- تفسير آيات الأحكام (طبعة مكتبة العبيكان) ص 201.
المصدر: كتاب (القرآن الكريم وبعض جوانب العمل الخيري المعاصر) للكاتب أحمد فتحي النجار (بتصرف يسير).