تقول صاحبة القصة:
أنا لا أريد منك سيدتي إلا نشر حكايتي ليدرك الناس أنه مهما تكالبت أحداث الحياة المريرة وظلم الناس على شخص ما، وتكوم حطام الانكسارات المتوالية فوق قلبه فلا بد وأن يجد منفذا للضوء يتبعه حتى ينهض من جديد، ويكمل مشواره ما دامت الأنفاس تدخل وتخرج من صدره.
سأخبرك يا سيدتي بقصتي من البداية.
لقد عشت يتيمة الأم منذ كنت في الرابعة من عمري، فعرفت طعم الفقد ووجع الحرمان وانكسار الروح حين أرى كل طفلة تمسك بيد والدتها في المناسبات الاجتماعية والأعياد أو حين تمسح أم فوق رأس ابنتها بحنان بالغ أو حين “تتدلع الابنة على والدتها يحضنها بكل حب”!
لم يؤثر رحيل والدتي كثيرا على والدي فقد تزوج بعد وفاتها بشهر واحد بامرأة لو كان لي الخيار لما صنفتها من عالم البشر! ذقت على يديها كل ألوان التعذيب التي قد تتخيليها في ظل صمت والدي، لقد كنت أتمنى الموت كل ساعة حتى صار من أجمل أحلامي..
من فرط قسوتها كنت آخر فرد ينام ليلا، وأول من ينهض من فراشه صباحا، حتى الشاي والفطور کنت أقوم بإعدادهما قبل ذهابي للمدرسة.
لم تكن عقارب الأيام تمر سريعا بل كنت في أحيان كثيرة أشك أن نفس اليوم يتكرر ثلاث مرات من طول ساعاته التي لم تكن تمضي أبدا!
كنت أشعر كأن أضلعي يجثم فوقها ألف جبل وجبل، وأن صدى صرخاتي التي تتلوى وجعا ترتد نحو حلقي فلا يسمعها سواي.. كنت حقا أختنق.
لكن ورغم كل ما كنت أعانيه من ظلم وقسوة ويتم كان عزائي الوحيد الدراسة حيث تفوقت فيها إلى تلك الدرجة التي أثرت فيها غيرة أخواتي من أبي مما دفع زوجته لإخراجي من المدرسة وأنا في الصف الأول ثانوي فقط.
انكسرت روحي كما ينكسر فنجان قهوة إلى أشلاء صغيرة!
انسلخت عن نفسي حتى لم أعد أدري من أنا! أحسست أن جزارا سلخ جلدي مثلما يسلخون جلد الذبيحة ورمی به بعيدا!
فأصبحت لا أعرفني..!
انكسار روح.. انسلاخ نفس…!
ماذا تبقى لي حتى أتمسك بحياتي البائسة
وفكرت بالانتحار لكني خفت من غضب الله.
لم تتوقف محاولات زوجة أبي في اذلالي وزرع الإحساس في داخلي بأني لست إنسانة.. كأنما وظيفتها في الحياة محاولة وأدي.
وكان لها شقيق يعاني من تخلف عقلي وعاهة بدنية ولا يستطيع النطق، لا أدري كيف أقنعت والدي والمأذون والناس جميعا بموافقتي على الارتباط به؟!
حاولت بشتى السبل الاعتراض ولكن لا حياة لمن تنادي.
هددتها بالهرب فهددتني بالقتل، هددتها بالانتحار فضحكت بسخرية وهي تقول:
أفتك منك هذا اللي أنا أريده، عساها أبرك الساعات، متى؟
ولأني كنت مجرد فتاة يتيمة خائفة مستضعفة لم ينصت إليها أحد ولم يستمع لصدى صراخها أحد…
فقد استسلمت لأنه الخيار الوحيد المتاح لي في ذلك الوقت.
وتم زفافي إليه في ملحمة إنسانية بائسة كان فيها الزوج لا يعلم حتى عما يدور حوله، عش الزوجية مجرد غرفة في سطح منزلنا في الأصل كان عشة حمام!
لم تكن معاملتها لشقيقها تتصف بالإنسانية إطلاقاً فقد كانت تضربه بشدة وبلا أدني رحمة.
حين يبعثر الطعام.. أو يصرخ بقوة.. أو يضايق إحدى بناتها المدللات.
لم يكن اهتمامها به بعد وفاة والديها ناتجا من محبتها له بل حتى لا يتكلم الناس عنها بسوء وهذا ما ظننته في البداية قبل أن اكتشف الحقيقة التي ستصعقكم كما صعقتني فيما بعد.
سوء معاملتها له دفعني للإشفاق عليه، شعرت أنني وإياه نتقاسم قسوة الحياة وظلم البشر وسوداوية الظروف وبؤس الأيام وعدم وجود السند والحضن الدافئ والمشاعر الانسانية.
بدأت في تقبّله لا كزوج بل كطفل كبير يحتاجني ويشعر بالأمان بقربي، فقمت بمحاولات لتهذيب عاداته وطبائعه وشعرت بمشاعر الأمومة نحوه…
ومرت خمس سنوات من عمري وشبابي الضائع ومشاعري المستنزفة كأنثى قبل أن يحدث التغيير الأول في حياتي ذات مساء.
أصيب زوجي بتشنج حاد لم تنفع معه كل محاولات الأطباء فتوفي خلال أسبوع! (يتبع)
ـــــــــــــ
من كتاب “شيء مني يشبهك” سلوى العضيدان.