عبدالله رمضاني
أصل الزكاة في اللغة من زكا يزكو زكاء، وهي الطهارة والنماء والبركة والمدح والزيادة والنماء والرحمة والصفاء والطهارة والصلاح (1). وكله قد استعمل في القرآن والحديث، ووزنها فَعَلَة كالصدقة. والزكا، هو الشفع من العدد، والعرب تقول للفرد خسًا وللزوجين زكًا، وقيل لها زكًا لأن اثنين أزكى من واحد (2). وسميت زكاة لما يكون فيها من رجاء البركة، وتطهير النفس وتزكيتها وتنميتها بالخيرات. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. والزكاة إحدى مباني الإسلام، وقد تردد ذكرها في القرآن الكريم اثنتين وثلاثين مرة، وهو عدد تكرار كلمة البركة ومشتقاتها، كما وردت مردفة بعد الصلاة في اثنتين وثمانين آية من الذكر الحكيم. وقد كانت فريضة الزكاة بمكة في أول الإسلام مطلقة، وغير محددة نصابا ولا إنفاقا، وإنما ترك ذلك لشعور المسلمين وكرمهم وسخائهم.
وفي السنة الثانية من الهجرة، على المشهور، فرض مقدارها من كل نوع من أنواع المال، وبُيّنت بيانًا مفصّلاً. وبما أن الزكاة فريضة مكتوبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة فقد شدد الإسلام الوعيد على المقصرين فيها فقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]، وقال أيضا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180].
أما السنة النبوية الشريفة فهي مليئة بالأحاديث التي تذم مانعي الزكاة وتنذرهم شرا وتعدهم بالهلاك في الدنيا والآخرة (3).
والذي يهمنا في هذا المقام أن نتبين مدى إسهام الزكاة في إصلاح الفرد والمجتمع، وقدرتها على خلق مجتمع متماسك مترابط ومتضامن نفسيًّا وسلوكيًّا، شعوريًّا وعمليًّا. إن الزكاة التي تفرض على المسلم إنما هي تدريب له على العطف على المحتاجين من الناس، وإعانتهم ومساعدتهم على سدّ حاجاتهم الضرورية.. إنها تقوي في المسلم الشعور بالمشاركة الوجدانية مع الفقراء والمساكين، وتبث فيه الإحساس بالمسؤولية تجاههم، وتدفعه إلى العمل على إسعادهم والترفيه عنهم.. إنها تعلم المسلم حب الآخرين، وإسداء الخير إليهم وإدخال الفرحة في أفئدتهم، وذلك يغرس فيه الشعور بالانتماء الاجتماعي، ويشعره بدوره الفعال في المجتمع، كما تدربه على بذل المال وصرفه في وجوه الخير وما ينفع الناس، فتطهر نفسه من دنس البخل والطمع والأثرة وحب الذات والأنانية وحب الجاه والقسوة على الفقراء والأنانية، مما يجعله يشعر بالرضا عن نفسه.
إن الصفات والسلوكات السلبية لا تزول إلا بقدر بذل المسلم للشيء وبقدر استبشاره بصرفه إلى الله تعالى، لأنه ثبت علميا لدى علماء النفس أن حب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير أمرا اعتياديا.. ولعل هذا الأمر له أهمية كبيرة في الصحة النفسية. وهي كذلك تزكي النفس أي (تنميها وترفعها بالخيرات والبركات الخلقية والعملية، حتى تكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية) (4)، فقد روى أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من تميم سأله كيف ينفق ماله: «تخرج الزكاة من مالك فإنها طُهْرةٌ تطهّرك، وتصل أقرباءك، وتعرف حق المسكين والجار والسائل» (5).
ومعلوم أن إنفاق المال لنيل رضا الله عز وجل في الدار الآخرة أشرف مما أنفقه أو ينفقه لتطهير نفسه عن رذيلة البخل أو شكرا لطلب المزيد، يقول الإمام الغزالي في هذا السياق: “لو عرف -أي الغني- فضل الفقر على الغنى، وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير، بل تمنى درجته، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «هم الأخسرون ورب الكعبة». فقال أبو ذر: من هم؟ قال: «هم الأكثرون أموالًا…» الحديث (6).
وتقوم الزكاة أيضًا بتعويد المسلم أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأطيبه وأجله، فإن الله تعالى لا يقبل إلا طيبا، مصداقا لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]. وحتى لا نقع في محظور، ونحن نؤدي ما أمرنا الله بإخراجه من أموالنا، أرى لابد من الإشارة إلى بعض الأدبيات المرتبطة بالزكاة، وقد عني بها العلماء عناية شديدة، ومنها بإيجاز:
– انتفاء النظرة الدونية إلى من تخرج إليهم الزكاة فـ”ما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله” (7)، فذلك شكر النعمة التي أسبغها الله عليه، وهي عبادة مالية. – الإسراع والتعجيل في إخراجها قبل أوانها المعلوم، إبداء للرغبة في الامتثال والطاعة بإيصال السرور والفرحة إلى أفئدة الفقراء، ومبادرة لعوائق الدهر أن تمنعه عن الخيرات.
– الإخفاء والإسرار والاحتراز والخلاص من آفات الرياء والسمعة {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]، وهذا لا يعني أن إظهار الزكاة مع إخلاص النية لله عز وجلّ فيه إثم أو رياء، لكن يحبذ في بعض الأحيان أن تخرج ظاهرة ترغيبا للناس في الاقتداء، مصداقا لقوله تعالى: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [الرعد: 22].
– مطلوب من المسلم، كذلك، ألا يفسد زكاته بأن يتبعها بالمنّ والأذى كأن يتكبر على الفقير لأجل عطائه، والتحدث به وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير، أو يعيره ويوبخه بالفقر، وتخشين الكلام وهتك الستر بالإظهار، وغيرها من فنون الاستخفاف، أو يعتبر نفسه أنه خير من الفقير، وأن الفقير لسبب حاجته هو أخس منه، قال الله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264].
ــــــــ
(1) لسان العرب 14/ 358.
(2) لسان العرب 14/ 359.
(3) تنظر في هذا الشأن كتب السنن.
(4) فقه السنة للسيد سابق 1/ 328.
(5) المرجع السابق 1/ 329.
(6) الإحياء 1/ 198.
(7) الإحياء 1/ 195.
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي (العدد 584) (بتصرف يسير).